ألا يذكرنا التوافق بين ظهور رسالة حضرة بهاءالله والتغيير الذي شمل أوضاع العالم بالتغييرات الجَذرِيَةِ التي حقّقتها الرسالات الإلهية السابقة في حياة البشر؟ ألا يدعونا هذا التوافق إلى التفكير في الرباط الوثيق بين الآفاق الجديدة التي جاءت في رسالة حضرة بهاءالله وبين التفتّح الفكري والتقدم العلمي والتغيير السياسي والاجتماعي الذي جدّ على العالم منذ إعلان دعوته؟ومهما بدت شدة العقبات وكثرتها فقد حان يوم الجمع بعد أن أعلن حضرة بهاءالله: “إن ربّكم الرحمن يحبّ أن يرى مَن في الأكوان كنفس واحدة“، ويتميز المجتمع البهائي العالمي اليوم بالوحدة التي تشهد لهذا الأمر والتي جمعت نماذج من كافة الأجناس والألوان والعقائد والأديان والقوميات والثقافات وأخرجت منها خلقاً جديداً، إيذاناً بقرب اتحاد البشرية وحلول السلام والصلح الأعظم، إنها المحبة الإلهية التي تجمع شتات البشر فينظر كل منهم إلى باقي أفرادها على أنهم عباد لإله واحد وهم له مسلمون. إنّ فطرة الإنسان التي فطره الله عليها هي المحبة والوداد، والأخوة الإنسانية منبعثة من الخصائص المشتركة بين أفراد البشر، فالإنسانية بأسرها خلق إرادة واحدة، وقد خرجت من أصل واحد، وتسير إلى مآل واحد، ولا وجود لأشرار بطبيعتهم أو عصاة بطبعهم، ولكن هناك جهلة ينبغي تعليمهم، وأشقياء يلزم تهذيبهم، ومرضى يجب علاجهم. حينئذ تنتشر في الأرض أنوار الملكوت، ويملأها العدل الإلهيّ الموعود.كان الاتحاد دائماً هدفاً نبيلاً في حدّ ذاته، ولكنه أضحى اليوم ضرورة تستلزمها المصالح الحيويّة للإنسان. فالمشاكل التي تهدّد مستقبل البشريّة مثل: حماية البيئة من التلوث المتزايد، واستغلال الموارد الطبيعيّة في العالم على نحو عادل، والحاجة الماسة إلى مشروعات التنمية الاقتصاديّة والاجتماعيّة في الدول المتخلّفة، وإبعاد شبح الحرب النوويّة عن الأجيال القادمة، ومواجهة العنف والتطرف اللذين يهددان بالقضاء على الحريّات والحياة الآمنة، وعديد من المشاكل الأخرى، يتعذّر علاجها على نحو فعّال إلاّ من خلال تعاون وثيق مخلص يقوم على أسس من الوفاق والاتحاد على الصعيد العالمي، وهذا ما أوجبه حضرة بهاءالله: “يجب على أهل الصفاء والوفاء أن يعاشروا جميع أهل العالم بالرَّوح والرّيحان لأن المعاشرة لم تزل ولا تزال سبب الاتحاد والاتفاق وهما سببا نظام العالم وحياة الأمم. طوبى للذين تمسّكوا بحبل الشفقة والرأفة وخلت نفوسهم وتحرّرت من الضغينة والبغضاء“.علّمنا التاريخ، وما زالت تعلّمنا أحداث الحاضر المريرة، أنّه لا سبيل لنزع زؤان الخصومة والضغينة والبغضاء وبذر بذور الوئام بين الأنام، ولا سبيل لمنع القتال ونزع السلاح ونشر لواء الصلح والصلاح، ولا سبيل للحدّ من الأطماع والسيطرة والاستغلال، إلا بالاعتصام بتعاليم إلهية وتشريع سماوي تهدف أحكامه إلى تحقيق هذه الغايات، ومن خلال نظام عالمي بديع يرتكز على إرساء قواعد الوحدة الشاملة لبني الإنسان وتوجيه جهوده إلى المنافع التي تخدم المصالح الكلية للإنسانية.وفي الحقيقة والواقع أَنَّ حسنَ التفكيرِ والتدبيرِ مساهمان وشريكان للهداية التي يكتسبها الإنسان من الدين في تحقيق مصالح المجتمع وضمان تقدّمه. فإلى جانب التسليم بأن الإلهام والفيض الإلهي مصدر وأساس للمعارف والتحضّر، لا يجوز أن نُغفِل دور عقل الإنسان أو نُبخّس حقّه في الكشف عن أسرار الطبيعة وتسخيرها لتحسين أوجه الحياة على سطح الأرض، فهو من هذا المنظور المصدر الثاني للمعارف اللازمة لمسيرة البشرية على نهج التمدّن، والتعمّق في فهم حقائق العالم المشهود.وقد تعاون العلم والدين في خلق الحضارات وحلّ مشاكل ومعضلات الحياة، وبهما معاً تجتمع للإنسان وسائل الراحة والرخاء والرقي ماديّاً وروحانيّاً. فهما للإنسان بمثابة جناحي الطير، على تعادلهما يتوقّف عروجه إلى العُلى، وعلى توازنهما يقوم اطّراد فلاحه. أما إذا مال الإنسان إلى الدين وأهمل العلم ينتهي أمره إلى الأوهام وتسيطر على فكره الخرافات، وعلى العكس إذا نحا نحو العلم وابتعد عن الدين، تسيطر على عقله وتفكيره ماديّة مفرطة، ويضعف وجدانه، مع ما يجرّه الحالان على الإنسانية من إسفاف وإهمال للقيم الحقيقية للحياة. ولعلّ البينونة التي ضاربت أطنابها بين الفكر الديني والتفكير العلمي هي المسؤول الرئيس عن عجز كليهما عن حسن تدبير شؤون المجتمع في الوقت الحاضر. لقد وهب الله العقل للإنسان لكي يحكم به على ما يصادفه في الحياة فهو ميزان للحكم على الواقع، وواجب الإنسان أن يوقن بصدق ما يقبله عقله فقط، ويعتبر ما يرفضه عقله وهماً كالسراب يحسبه الناظر ماء ولكن لا نصيب له من الحقيقة. أما إذا دام الإصرار على تصديق ما يمجّه العقل فما عساها تكون فائدة هذه المنحة العظمى التي منّ الله بها على الإنسان وميّزه بها عن الحيوان. فكما أن الإنسان لا يكذّب ما يراه بعينيه أو ما يسمعه بأذنيه فكذلك لا يسعه إلاّ أن يصدّق بما يعيه ويقبله عقله. والحقّ أن العقل يفوق ما عداه من وسائل الإدراك فكل الحواس محدودة في قدراتها بالنسبة للعقل الذي لا تكاد تحدّ قدراته حدود، فهو يدرك ما لا يقع تحت الحواس ويرى ما لا تراه العين وينصت لما لا تصله إلى سمعه الآذان، ويخرق حدود الزمان والمكان فيصل إلى اكتشاف ما وقع في غابر الأزمان ويبلغ إلى حقائق الكون ونشأته والناموس الذي يحكم حركته. ومن الحق أن كل ما عرفه الإنسان من علوم وفنون واكتشافات وآداب هي من بدع هذا العقل ونتاجه. أفلا يكفي عذراً إذن لمن ينكرون الدين في هذه الأيام أن كثيراً من الآراء الدينية التي قال بها المفسرون القدماء مرفوضة عقلاً، ومناقضة للقوانين العلمية والقواعد المنطقية التي توصل إليها العقل؟والمبدأ المرادف للمبدأ السابق هو مسئولية الإنسان في البحث عن الحقيقة مستقلاً عن آراء وقناعات غيره، وبغض النظر عن التقاليد الموروثة والآراء المتوارثة عن السلف والقدماء مهما بلغ تقديره لمنزلتهم ومهما كانت مشاعره بالنسبة لآرائهم. وبعبارة أخرى يسعى لأن تكون أحكامه على الأفكار والأحداث صادرة عن نظر موضوعي نتيجة لتقديره ورأيه تبعاً لما يراه فيها من حقائق. إن الاعتماد على أحكام وآراء الغير تَسبّبَ في الإضرار بالفكر الديني والتفكير العلمي وملكة الإبداع في كثير من الأمم، فإحباط روح البحث والتجديد التي نعاني منها اليوم كانت نتيجة التقليد الأعمى واتباع ما قاله السلف والتمسك بالموروث بدون تدقيق في مدى صحته أو نصيبه من الحقيقة أو اختبار أوجه نفعه.فواجبنا اليوم أن نتحرّى الحقيقة ونترك الخرافات والأوهام التي تشوب كثيراً من تصورات ومفاهيم وتفاسير السلف في مختلف الميادين وعلى الأخص فيما يتعلق بالمعتقدات والتفاسير الدينيّة. لقد خلق الله العقل في الإنسان لكي يطلع على حقائق الأشياء لا ليقلد آباءه وأجداده تقليداً أعمى. وكما أن كل من أُوتِيَ البصر يعتمد عليه في تبيّن الأشياء، وأن كل من أُوتِيَ السمع يعتمد عليه في التمييز بين الأصوات، فكذلك واجب كل من أُوتِيَ عقلاً أن يعتمد عليه في تقديره للأمور ومساعيه لتحري الحقيقة واتباعها. وذلك هو النصح والتوجيه الإلهي حيث قال تعالى: “وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمَعَ وَالبَصَرَ وَالفُؤَادَ كُلُّ أُوْلَئِكَ كَانَ عَنْهِ مَسْئُولاً“سورة الإسراء، آية ٣٦.وإهمال المرء الاستقلال في بحثه وأحكامه يورث الندامة. فقد رفض اليهود كلاّ من رسالة سيدنا المسيح ورسالة سيدنا محمد نتيجة لإحجامهم عن البحث المستقلّ عن الحقيقة واتباع التقاليد والأفكار الموروثة، من ذلك نبوءات مجيء سيدنا المسيح – التي وِفقاً للتفاسير الحرفية التي قال بها السلف – أنه سيأتي مَلَكاً ومن مكان غير معلوم بينما بُعث سيدنا المسيح فقيراً وجاءهم من بلدة الناصرة، وبذلك أضلّتهم أوهام السلف عن رؤية الحقيقة الماثلة أمام أنظارهم ومنعتهم عن إدراك المعاني الروحانية المرموز إليها في تلك النبوءات. ثم أدّى التشبث بمفاهيم السلف إلى بث الكراهية والعداوة بينهم وبين أمم أخرى دامت إلى يومنا هذا. وما ذلك إلاّ بسبب الانصراف عن إعمال العقل والاستقلال في التعرف على الحقيقة.
…الجزء الثالث ….التوافق بين ظهور الرسالات وتغيير الأوضاع ….
مارس 25, 2008 بواسطة nerog
أرسلت فى Baha'u'llah, bahai, bahai faith, one world, pray, Uncategorized, فكر, قرآن كريم, كلمات إلهية, مقال, مبادئ, محبة, مشاركة, معرفة, وحدة, وداد, ألوان, أهل, أجناس, أديان, أسرة, أصدقاء, أعوام, إنصاف, إتحاد, إسلام, اقرأ, القرآن الكريم, الكتاب الأقدس, المبادئ البهائية, المجتمع البهائي, المساواة, المشورة, الإتحاد, الإسلام, البهائية, البابية, الدين, الديانة البهائية, السلام العالمى, اديان, اراء, اسلام, بهائية, تفكير, تقدم, توافق, تواريخ, تجديد, تحذير, ترابط, تضحية, ثقافات, حب, حضرة الباب, حضرة بهاء الله, حضرة عبد البهاء, خواطر, دين الله واحد, ديانات, دعاء, رقي, روح, روحانيات, رأس السنة البهائبة, سرور, سعيد, سعادة, صلاة, صوم, عقائد, عقبات, علم, عيد, عالم واحد, عدل, عظمة | 4 تعليقات
4 تعليقات
أضف تعليق
Blog Stats
- 51٬324 hits
الصفحات
أحدث التعليقات
-
أحدث التدوينات
Top Posts
الأرشيف
- ماي 2011
- أفريل 2011
- مارس 2011
- ديسمبر 2010
- جوان 2010
- ماي 2010
- أفريل 2010
- مارس 2010
- فيفري 2010
- جانفي 2010
- ديسمبر 2009
- نوفمبر 2009
- أكتوبر 2009
- سبتمبر 2009
- أوت 2009
- جويلية 2009
- جوان 2009
- ماي 2009
- أفريل 2009
- مارس 2009
- فيفري 2009
- جانفي 2009
- ديسمبر 2008
- نوفمبر 2008
- أكتوبر 2008
- سبتمبر 2008
- أوت 2008
- جويلية 2008
- جوان 2008
- ماي 2008
- أفريل 2008
- مارس 2008
- فيفري 2008
- جانفي 2008
- ديسمبر 2007
- -ا - تحريم الخمور والأفيون - الأبدان - الكتاب الأقدس -رمضان -فانوس - عيد الطفولة - كل عام وأنتم بخير -المولد النبوى الشريف - عروسة المولد -نتيجة الثانوية العامة - تنسيق الثانوية العامة Add new tag البهائية -i البهائية - حضرة بهاء الله - الله - صور - أطفال - شهر شوال البهائية -حضرة بهاء الله -الملوك - الرؤساء - نداء الله - الرسل البهائية - حضرة بهاء الله -حضرة البهائية - حضرة بهاء الله - رسالة من المصريين البهائيين - يوم اليتيم - إعلان الدستور البهائية - حضرة بهاء الله -عيد النيروز- المكتبة البهائية - كتاب الأقدس - عيد الأم البهائية - حضرة بهاء الله - قرة العين -حضرة الباب - المكتبة البهائية - الحياة - الموت البهائية - حضرة بهاء الله 0 مدو البهائية - حضرة بهاء الله 0 مدو�البهائية - حضرة بهاء الله 0 مدو�البهائية - حضرة بهاء الله 0 مدو��لبهائية - حضرة البهائية - عيد الفطر - دعاء - رمضان - صور - إحتفال - تهنئة - كروت أعياد الديانة البهائية تفعيل الحكم - عيد القيامة رسائل - الملوك - الرؤساء - تركيا إيران - فرنسا عيد النيروز- عيد الأم قضية البهائيين كل عام وأنتم بخير - رأس السنة الميلادية - ميلاد سيدنا المسيح - المسيحيين - عام 2011 لأزمة الأقتصادية العالمية - أخبار الأسكندرية
Top Clicks
- لا شيء
ما اعظم التمسك بالاحكام الالهية لانها مصباح الفلاح للظلمة التي تعتري العالم اليوم
http://thepromiseday.wordpress.com/ قد جاء اليوم الموعود
كل عام وأنتم أبنكم بكل بخير بمناسبة عيد الرضوان أعاده الله علينا العام القادم وقد عمت رايات السلام كل الأرجاء أن شاء الله .
و الله يا ريت الناس تقرأ هذا الكلام و تستفيد منه
لأن فيه حلول لمشاكل كتيرة بتواجه العالم و البشر
يبقى الحل اللي ينفع لازم يكون حل بالتدخل إلهي , طالما ان البشر عجزوا عن ايجاد الحل
عندك حق يالولو . فالآيات الكثيرة بالقرآن الكريم تدعوا الناس للتفكر والتعقل والتأمل . ليتنا نستفيد بما حباه الله لنا من نعمة العقل ونكون من المنصفين .